العلاج فقط بالدفع المسبق
في ظل الخلاف على نفقات علاج جرحى الحرب من ليبيا، لا تزال العديد من المستشفيات في انتظار مستحقاتها إلى اليوم، وهذا الحال يكشف تقصيرات مؤسفة للوزير الألماني السابق، ومعاناة سفارة لدولة في رياح الربيع العربي.
يجلس السنوسي كويدير خلف مكتبه الكبير وأمامه كومة من المستندات، التي تشتمل على ملفات وفواتير وعقود، وكان كلف ملف على حدة. منذ تعيينه سفيراً لدولة ليبيا في ألمانيا في شهر يوليه الماضي ولا يترك هذا السياسي موضوعاً من ذاكرته: غضب المستشفيات الألمانية لعدم سداد مستحقاتها، التي تدين بها الدولة الواقعة في شمال افريقيا نظير علاج جرحى الحرب الأخيرة.
وضع كويدير خمس أوراق بعناية على طاولته إلى جوار بعضها، وفوق كل ورقة يوجد اسم المستشفى التي تحصلت في هذا اليوم على أموالها واجبة الدفع أخير اً، ولم يج ف توقيع قلم السفير الليبي على هذه الأوراق بعد.
لن يتوقف أحد على كيفية الوصول للح ل كعامل أساسي للعلاقات الألمانية الليبية، لأن هناك العديد من المستشفيات الألمانية التي تطالب بالملايين. كانت الحكومة الألمانية ونقابة المستشفيات الألمانية DKG قد طالبت تلك المستشفيات بتقديم الخدمة الجيدة دون مخاطر، بعدما قام وزير الصحة الألماني الأسبق )فيليب روسلر( بزيارة طرابلس في شهر أكتوبر 2011 واصطحب أول مجموعة من المرضى الليبيين للعلاج في ألمانيا، حتى على متن طائرات حربية. كانت هذه لفتة إنسانية من جهة السياسة الألمانية لتحقيق التعاون مع ليبيا، واعتبرتها ألمانيا فرصة لتعزيز أواصر العلاقات الدبلوماسية مع ليبيا بعد الثورة، وتعويض عن موقف ألمانيا القديم بالامتناع عن التصويت في جلسة مجلس الأمن الدولي للقيام بعملية عسكرية في ليبيا وقتها.
كما حقق علاج المرضى الاضافيين تجارة رابحة: فقد تحملت الدولة الليبية نفقات العلاج، لأن النظام الصحي في ليبيا بعد الحرب كان منعدم اً، على الرغم من امتلاك الوسائل المالية الكافية. هذا وقد قدم بنك الاقراض المعماري KfW قرضاً بقيمة مائة مليون يورو لدعم عملية العلاج، كما ساعدت وزارة الخارجية الألمانية عبر تخفيف القيود البيروقراطية على التأشيرة.
في شهر ابريل 2012 بلغت ديون علاج الليبيين )الذين زاد عددهم عن ألف جريح( في المستشفيات والمصحات الألمانية مبلغ 32 مليون يورو حسب تقديرات وزارة الصحة الألمانية BMG ، غير أن السفارة الليبية وقتها أوقفت التحويلات المالية دون ابداء الاسباب، ووعد أحد موظفيها بأن جميع الديون سيتم سدادها بحلول شهر يناير 2013
لا يريد أحداً من طرفي القضية الحديث عن وقت حصول المستشفيات على مستحقاتها، ويقول السفير “السنوي كويدير: “لقد حققنا الكثير، ودفعنا معظم المستحقات المالية.
الأكيد أيضاً أن بعض المستشفيات لا تزال إلى اليوم في انتظار الحصول على مستحقاتها لعلاج الليبيين، وهناك مبالغ كبيرة في بعض الحالات، وفجأةً جاء الخبر: للأسف لن ندفع شيئاً آخر. وقتها كان يرقد الليبيون على فراش المستشفيات، حيث أكد مندوب لإحدى هذه المستشفيات أن للمستشفى مستحقات على السفارة الليبية بستة أرقام لم يتم سدادها بعد، لكن المندوب لا يريد ذكر اسمه خوفاً من إظهار السفارة للمزيد من التعنت في سداد المستحقات. قانونياً لا يملك المرء مقاضاة شركة )ألميدا( للخدمات الصحية التابعة لشركة التأمين الألمانية Munich RE ، والتي توسطت في البداية بين المرضى الليبيين والمستشفيات الألمانية.
تشعر بعض المستشفيات بنوع من الخداع في المسألة، ويقول المندوب المذكور: “إنها شركة معروفة، ونتعامل معها إلى تاريخه بدون أدنى مشكلة. لهذا نستنتج أن للموضوع خلفية أخرى. لقد قمنا باستقبال الجرحى بإصابات خطيرة في وقت قصير للغاية، لأننا لا نضيع الوقت في الحالات الحرجة التي تتراوح بين الحياة والموت، بل نسارع للعلاج معتمدين على الضمان.”
في شهر فبراير 2013 بدأت شركة الفحص التجاري PwC عملها بتكليف من وزارة الصحة الليبية، لتقوم بفحص جميع فواتير المستشفيات حسب النظم المعمول بها، لأن الجانب الليبي شعر بوجود مُبالغة في احتساب نفقات العلاج. جاء التأكيد من شركة PwC لقد تم تكليفنا بالتأكد من الأرقام.” بعد أسبوعين من التكليف سارت الشركة في طريقها بحثاً عن الشفافية، لكن مندوب المستشفى يؤكد أنه بعد فحص الفواتير من جانب PwC لم تصلنا أي ردود أو مبالغ.
على النقيض يقول أحد موظفي السفارة الليبية عن الحالات القائمة: “نقوم ببحث الملف تلو الآخر، لكن هناك بعض المستشفيات التي لا تزال ترفض التعاون معنا.” إن السفير الليبي كويدير مقتنع بهذا الرأي:
“من يتعاون معنا سيحصل على المال الذي يحق له.”
تحاول وزارة الصحة الألمانية تحقيق تق د م ملموس: “بعد المشاكل الأولية نشعر باستعداد التعاون من الجانب الليبي”، هكذا جاء ر د وزارة الصحة الألمانية على استفسار المجلة. هذا وقد قدمت شركة PwC عروضاً للتسوية مع بعض المستشفيات، التي قبلتها العديد من المستشفيات بالفعل، لكن الحكومة الألمانية ليست على علم بالتفاصيل من حيث المبالغ الأساسية والعروض المقدمة، وجاء التعليل على ذلك بالقول: “إنها أسرار العمل بالنسبة للمستشفيات.”
لا تريد معظم المستشفيات الر د على استفسارنا، لكن )رولف ديتر مولر( رئيس اللجنة الخاصة لمتابعة الملف الصحي بين ألمانيا وليبيا، يعرف السبب وراء تحفظ المستشفيات عن الحديث: “قبل الخوض في مباحثات مع شركة PwC وقعت المستشفيات على وثيقة الاحتفاظ بسرية الموضوع.” ويشعر مولر بالغرابة الشديدة من هذا الاسلوب، لكن طرفاً ثالثاً لن يحصل على أي معلومة بسهولة.
الطرف الثالث في هذه الحالة هم بعض رجال الصحافة، بل ووزارة الصحة الاتحادية ذاتها وأخيراً لجنة الوساطة الخاصة، ويخفى علينا كيفية عمل لجنة الوساطة الخاصة برئاسة مولر في ظل هذه الظروف، ولا يعلمها سوى وزير الصحة السابق )روسلر( وخليفته وزير الصحة الحالي )دانيل بار(، الذي يحق له وحده متابعة عمل اللجنة الخاصة. لهذا فإن التقرير النهائي للجنة الوساطة الخاصة )الذي صدر بعد
موافقة الجانب الليبي( لا يتضمن الكثير من المعلومات، فيما تبحث السفارة الليبية حالياً الحصول على موافقة وزارة الصحة الليبية لمناقشة هذا التقرير بالتفصيل مع لجنة الوساطة الخاصة، حسبما صرح مولر.
حدثنا السفير كويدير عن الاجتماع المؤرخ في 26/08/2013 مع مندوبي وزارة الصحة الالمانية حيث اتفق الطرفان على تشكيل لجنة مشتركة، لكن الأمر إلى اليوم لا يزال مجرد اعلان بينهم.
وعلى الرغم من أن وزارة الصحة الألمانية قامت في عام 2011 بالتعاون مع وزارة الخارجية الألمانية ووزارة المالية الألمانية بالدعاية الجيدة في المستشفيات الألمانية لاستقبال المرضى الليبيين، لكنها سرعان ما تهربت من المسؤولية بعد وقت قصير من التعامل الجيد بين الطرفين، حيث أفاد مستشار وزارة الصحة )أورتفين شولتى ( في اجابته على استفسار المجلة: “وزارة الصحة الاتحادية غير مختصة ببحث النزاع مع بعض المستشفيات.”
لا يمكن التكهن بالقيمة الحالية للمستشفيات المتأثرة، وجاء رد أحد المستشفيات: “هذا نوع من البلاغة، نحن نحاول تسوية الأمور فحسب.” فيما قامت بعض المستشفيات باتخاذ قرارها قبل الأزمة ووكلت محامي لتحصيل المستحقات، إذ يقول محامي واحدة من تلك المستشفيات إن موكله لم تحصل سوى على%80 من مستحقات العلاج، على الرغم من حصوله على تأكيد من شركة PwC بصحة الفواتير الصادة عنه، وأكد المحامي نبأ التوقيع على وثيقة سرية المعلومات، ولهذا لا يمكنه التصريح باسم هذا المستشفى.
يتهم المحامي شركة PwC بانتهاج سياسة التعطيل والابتزاز، حتى لا يبقى أمام المستشفى سوى الاذعان لاقتراح الشركة المؤلف من ثلاث صفحات، في الوقت الذي ترفض فيه البنوك مواصلة تمويل المستشفى، ووصلت أنباء إلى المستشفى من شركة PwC أنها ستماطل في موضوع بحث المستحقات، علماً بأن المبلغ الذي يتم التفاوض عليه يتجاوز ثلاثة ملايين يورو، وهو مبلغ طائل يصعب على المستشفى تحمله، في الوقت الذي ترفض فيه شركة PwC الر د على استفسار المجلة بحُجة الالتزام ببنود التعاقد.
محاولات الاحتيال تجتاح الجانب الآخر، إذ يؤكد السفير الليبي وجود حالات طالب فيه المستشفى بنفقات علاج، ولم يق دم سوى ربع قيمة الخدمة الواردة في الفواتير فقط، وتحاول تلك المستشفيات رغماً عن ذلك الضغط على شركة PwC لأشهر طويلة للحصول على أمول لا تحق لها، ومن بينها تلك المستشفيات التي استقبلت مرضى ليبيين دون تفويض من السفارة، واليوم تطالب السفارة بسداد المستحقات، ويشدد السفير كويدير: “هذا غير مقبول.”
على الجانب الآخر يؤكد بعض مندوبي المستشفيات وجود حالات الفساد في الجانب الليبي، والتي تتسبب في تعطيل السداد. كانت الحكومة الليبية الجديدة قد وضعت سفارتها في برلين تحت المجهر –قبل أن يتسلم كويدير المهام حسب مصادر مطلعة، وهو ما أكده السفير الليبي شخصياً حول وجود – شبهة الاتهام، ولهذا اتخذ في أول مهامه قرارات شخصية لتعديل الموقف، ويتحمل القسم الصحي التابع للسفارة الليبية المسؤولية عن اختفاء مبالغ كبيرة، بينما تم تغيير بعض الأشخاص المسؤولين في القسم الصحي مؤخرا ، ليحل محلهم أشخاص آخرين.
عموماً حلت أزمة النزاع المالي على المرضى الليبيين أنفسهم، حيث يحكي لنا السفير كويدير عن مستشفى يطالب بمبلغ يتعدى المليون، ويريد على الفور انهاء علاج المرضى الليبيين المتواجدين حالياً على سرير العلاج بالمستشفى.
هذا ولا يريد أي مستشفى تأكيد ما جاء على لسان )جينس يوزكاك ) خبير علاج المرضى الأجانب -بمستشفى بون راين الجامعي، الذي يتبعه قرابة 35 مستشفى وشركة صحية بصورة غير رسمية في نهاية العام الماضي 2012 بأن المستشفيات ستقوم مستقبلاً برفض المرضى من ليبيا خاصةً .
يضيف الخبير المذكور بأن هذا الموقف شرعي بسبب الأزمة الراهنة. والأكيد أن العديد من المستشفيات أكدت أنها لا تستقبل المرضى الليبيين في الآونة الأخيرة إلا بعد دفع نفقات العلاج مسبق اً، وذلك لتجنب المخاطر الناجمة عن تقديم الخدمة الانسانية في الماضي.
ويبقى الفائز الوحيد من الأطراف المذكورة هو رجال القانون وشركة الفحص التجاري